
بقلم ميلود ميسي : “العزوف السياسي في المغرب: حين يفقد المواطن البوصلة وتتمدد رقعة الفساد”
شعلة : الاستاذ ميلود ميسي
في السنوات الأخيرة، بات المشهد السياسي في المغرب أكثر ضبابية، تسوده اللامبالاة ويطغى عليه خطاب فقدان الثقة. فقد أضحى من المألوف سماع عبارة “كلشي بحال بحال” في المقاهي، وعلى صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، كتعبير عن الإحباط الجماعي من الطبقة السياسية والنقابية على حد سواء. لكن خلف هذه العبارة البسيطة تختبئ إشكاليات بنيوية عميقة، تُضعف الحقل السياسي وتُقوي مراكز النفوذ والفساد.
رغم ما يبدو من تنوع حزبي في المغرب، فإن التعددية الحزبية تحوّلت إلى مجرد مشهد شكلي، يغيب فيه الفعل السياسي الجاد والاختلاف الحقيقي في البرامج. أحزاب جديدة وصلت إلى الحكم بسرعة، لكنها سرعان ما كشفت عن عجزها وافتقارها للرؤية، بينما أحزاب الكتلة الديمقراطية التقليدية تآكلت وانكمشت، بعدما فقدت البوصلة والارتباط بقضايا الشارع. أما اليسار، فرغم تاريخه النضالي، يعيش حالة تشتت مُمنهج، تُفشل كل محاولة للالتقاء أو الانطلاق. وفي المقابل، تملأ الساحة أحزاب إسلاموية شعبوية، لا تملك سوى خطاب عاطفي ونَفَس دعوي، تُقدّم عبره وعوداً فضفاضة ونكتاً سياسية، دون مشروع اقتصادي أو اجتماعي حقيقي. كل ذلك عزّز مناخ فقدان الثقة، وساهم في إفراغ العمل السياسي من مضمونه، في وقت يتغلغل فيه الفساد ويتقوى بضعف البدائل.
أزمة ثقة ممتدة
تراجع الثقة في الأحزاب السياسية لم يعد مجرد موقف ظرفي، بل تحوّل إلى موقف مبدئي لدى جزء كبير من المواطنين. لم تعد الأحزاب قادرة على إقناع الناس بأنها تمثلهم أو تدافع عن مصالحهم، بل أُفرغت من مضمونها النضالي وتحولت في نظر كثيرين إلى دكاكين انتخابية تبحث عن السلطة لا عن التغيير. النقابات بدورها، والتي يفترض أن تكون صوت الشغيلة، تآكل رصيدها بفعل التواطؤ أو العجز أو التسييس المفرط. وفي المحطة السابقة للأساتذة خير دليل حيث وجدنا أساتذة مضربين نقابات محاورة للحكومة حققت ما لم يتحقيقه لكن تشتيت من بعض النقابات عن قصد أو بسبب غياب رؤية استراتيجية واضحة، جعل بعض الأساتذة الموقوفين يعيشون وضعا نفسيا صعبا اجتماعيا متأزما.
غياب بوصلة التمييز
ما يُفاقم هذا الوضع هو غياب أدوات التقييم السياسي الحقيقي. المواطن البسيط لا يمتلك اليوم الوسائل التي تمكنه من التمييز بين السياسي الصالح والطالح، بين البرنامج الواقعي والوهمي، بين الممارسة المبدئية والانتهازية. وقد ساهمت بعض وسائل الإعلام، بسطحيتها أو بتحيزها، في تعميق هذا الضباب، بدل أن تساهم في التنوير السياسي.
فعل سياسي مُغيّب
في ظل هذا الواقع، تم اختزال المشاركة السياسية في التعبير الافتراضي أو في النقاشات العابرة في المقاهي. أما الفعل السياسي الحقيقي، فغائب أو مُقيد أو مستهزأ به. الساحة تُركت فارغة، والفراغ لا يدوم، إذ سرعان ما تم ملؤه من طرف قوى تعرف كيف تستثمر في الصمت الجماعي: الفساد والمفسدون.
الفساد يتغذى من العزوف
حين يتراجع منسوب المشاركة السياسية، وتُهجر صناديق الاقتراع، وتُصادر المبادرات الجادة، فإن الفساد يتمدد، ويجد في ضعف الرقابة الشعبية أفضل بيئة لنموه. والأخطر أن المفسدين أنفسهم باتوا يوظفون أدوات الدولة والتمثيل الشعبي لصالحهم، دون مساءلة أو عقاب، في حلقة مغلقة من إعادة إنتاج الرداءة.
يسار مشتت وإسلامويون شعبويون
من جهة أخرى، فشلت قوى اليسار في توحيد صفوفها، رغم كل المحاولات. وفي كل مرة تظهر بوادر انطلاقة، يحدث ما يعيد الجميع إلى نقطة الصفر: صراعات داخلية، تدخلات خارجية، أو ضغوط ممنهجة. هذا التشتت خدم أطرافاً أخرى، خصوصاً التيارات الإسلاموية ذات الخطاب الشعبوي، التي لم تقدم يوماً بديلاً اقتصادياً أو اجتماعياً واضحاً، بل اكتفت بلغة عاطفية تلامس مشاعر الناس دون أن تمس عمق مشاكلهم. بل وصل الأمر إلى سب المواطنين الذين يختلفون معهم .
فكيف لأمين حزب، رئيس حكومة سابق و مرشح لترأس الحكومة المقبلة أن يسب من يختلفون معه في الرأي.
نحو أفق جديد؟
إذا استمر هذا الواقع، فإن المغرب سيخسر أكثر من مجرد انتخابات أو أحزاب. سيخسر جيلاً كاملاً من المواطنين الذين تربوا على فكرة أن السياسة لا تُغيّر، وأن الفساد دائم، وأن “كلشي بحال بحال”. وهو ما قد يُفضي مستقبلاً إلى عزوف شامل قد يهدد استقرار المجتمع وتوازنه.
الحل لا يكمن في إصلاح الأحزاب فقط، بل في إعادة بناء الثقة عبر خطوات حقيقية: تفعيل آليات المحاسبة، تقوية الإعلام المستقل، دعم المبادرات المواطِنة، وتحفيز الشباب على الفعل السياسي الجاد.
فالسياسة، في النهاية، ليست حكراً على النخب، بل هي مسؤولية جماعية. وإذا لم يعد المواطن يثق في السياسي، فعليه أن يصبح هو نفسه فاعلاً سياسياً، لا مُعلقاً من بعيد.