
“اللوبيات المتحكمة في رقاب المغاربة تمضي نحو الإجهاز على السلطة الرابعة”
شعلة
تلعب الصحافة دورًا محوريًا في نقل الحقيقة والدفاع عن قضايا المجتمع، حيث تمثل صلة الوصل بين المواطن وصناع القرار. غير أن هذه الوظيفة أصبحت تصطدم بعوائق عدة، أبرزها تحكم لوبيات الأحزاب ورجال الأعمال في المشهد الإعلامي، مما يحد من استقلالية الصحافيين ويؤثر على جودة المعلومة المقدمة للجمهور. في المغرب، ورغم النصوص القانونية التي تضمن حرية الصحافة، إلا أن الواقع يبرز تحديات متعددة، خصوصًا في ظل غياب سياسة دعم شفافة تشمل جميع الصحف، بغض النظر عن انتماءاتها أو حجمها. هذا الوضع يجعل الإعلام الجهوي المستقل يعاني من شح الموارد مقارنة بوسائل الإعلام المدعومة من الدولة أو المرتبطة بلوبيات المصالح، مما يطرح إشكالية كبرى حول كيفية بقاء الصحافة الحرة قادرة على تأدية دورها دون أن تتحول إلى وسيلة ترويج لمصالح معينة.
يقر الدستور المغربي بحرية الصحافة والتعبير، كما ينص قانون الصحافة والنشر على ضرورة ضمان استقلالية الإعلاميين. لكن الإشكال يكمن في التطبيق، حيث نجد أن الصحف الكبرى المرتبطة بالأحزاب السياسية أو المقولات الصحفية الكبرى التابعة لجهة ما تستفيد من دعم الدولة والإشهار العمومي بسخاء ، مما يجعلها أكثر تحفظًا في تناول المواضيع الحساسة، بينما تعاني الصحف المحلية والإقليمية و الجهوية المستقلة من ضعف او غياب الموارد المالية، ما يجعلها عرضة للانقراض أو الارتماء في أحضان ممولين مشروطين. كما أن توزيع الدعم العمومي لا يتم وفق معايير عادلة تشمل جميع الصحف، بل غالبًا ما يتم توجيهه نحو المؤسسات الإعلامية الكبرى بفرض شروط تعجيزية لا يقدر عليها سواهم، مما يخلق فجوة كبيرة بين الصحافة المستقلة والصحافة الموجهة. إضافة إلى ذلك، فإن الصحف التابعة للأحزاب أو رجال الأعمال تتحول إلى أدوات دعاية أكثر منها وسائل إعلامية مستقلة، حيث يتم تهميش قضايا المواطن لصالح الأجندات السياسية والاقتصادية، مما يفقد الإعلام دوره الرقابي الحقيقي ويجعله جزءًا من آلة التوجيه والتضليل.
في ظل هذا الواقع، يواجه الصحافي المستقل صعوبات كبيرة في أداء مهمته، خاصة إذا لم يكن يستفيد من الدعم العمومي أو من عائدات الإشهار، حيث يجد نفسه مطالبًا بتغطية أنشطـة سياسية أو اقتصادية فقط من أجل الحصول على مقابل مالي يمكنه من الاستمرار. في كثير من الحالات، يضطر الصحافي إلى حضور مؤتمرات حزبية أو أنشطة اقتصادية ممولة، حيث يشاهد بأم عينه قادة الأحزاب يكذبون، يراوغون، ويحرفون الحقائق، لكنه لا يستطيع الاعتراض أو التصحيح لأنه يعرف أن ذلك قد يؤدي إلى خسارته لمصدر رزقه الوحيد. هذه الوضعية تجعل الصحافي في مأزق أخلاقي ومهني، فهو مطالب بنقل الحقيقة، لكنه في الوقت ذاته محاصر بالضغوط المالية التي قد تجعله مضطرًا للسكوت أو حتى الترويج لمعلومات مشوهة حفاظًا على استمراريته المهنية.
وتزداد هذه التحديات حدة بالنسبة للمقاولات الصحفية الصغيرة، خاصة تلك المنتشرة في الأقاليم، والتي تجد نفسها محاصرة بين الإكراهات المادية القارة، من قبيل الضرائب ورسوم الضمان الاجتماعي، وشراء أدوات العمل، وأداء أجور المتعاونين والتقنيين، إضافة إلى مصاريف كراء المقرات وما تتطلبه من ماء وكهرباء وإنترنت. كل هذه الالتزامات تجعل الصحفي أمام خيارين لا ثالث لهما: إما القبول بالعمل تحت الطلب، حيث يصبح أداة بيد ممولي الصحيفة، أو تحمل مسؤوليته في نقل الحقيقة بكل مخاطرها. هذه الإكراهات يستفيد منها الجميع، من مؤسسات الدولة والمسؤولين والمنتخبين، الذين يفضلون التعامل مع صحافة خاضعة، بينما يواجه الصحفي المستقل عقوبات متعددة إذا قرر التمرد وفضح الفساد، تتراوح بين الحصار المالي والتضييق القانوني والتشهير، وصولًا إلى التهديدات المباشرة وغير المباشرة.
إن تحكم اللوبيات في المشهد السياسي والاقتصادي يزيد من تعقيد مأزق الصحافة المستقلة. فاللوبيات المتحكمة في الأحزاب السياسية تصر على وضع أصحاب الأموال والمفسدين في مقدمة اللوائح الانتخابية والمناصب الحساسة، كما أن المؤسسات الاقتصادية الكبرى التي تتحكم في الاقتصاد الوطني تفرض شروطها على السوق الإعلامي، مما يجعل الصحافة غير قادرة على أداء دورها الحقيقي. يضاف إلى ذلك مسؤولون فاسدون حولوا المؤسسات التي يشرفون عليها إلى بقرة حلوب لخدمة مصالحهم الشخصية، بدلًا من أن تكون في خدمة المواطن، وهو ما يجعل الصحافة المستقلة في مواجهة مباشرة مع هذه القوى النافذة. هؤلاء المسؤولون واللوبيات المتحكمة في القرار السياسي والاقتصادي يستخدمون كل الوسائل لإخضاع الإعلام، بما في ذلك حرمان المؤسسات الصحفية المستقلة من الدعم العمومي عبر فرض شروط تعجيزية، لا يستفيد منها إلا من اختار الاصطفاف لخدمتهم والترويج لأجنداتهم. مما يجعل اللوبيات المتحكمة في رقاب المغاربة تمضي نحو الإجهاز على السلطة الرابعة، الشيء الذي يزيد من تعقيد الوضع ويجعل الصحافة المستقلة في خطر دائم.
إن استقلالية رجال الصحافة والإعلام ليست مجرد مطلب مهني، بل هي ركيزة أساسية لضمان حرية التعبير وترسيخ الديمقراطية. ورغم تحكم اللوبيات في جزء كبير من المشهد الإعلامي، فإن الصحافيين لا يزالون قادرين على العمل إلى جانب المواطن عبر التمسك بالمهنية، والبحث عن بدائل تمويل مستقلة، والضغط من أجل إصلاح حقيقي في آليات دعم الصحافة. إن وجود إعلام حر ومستقل هو الضامن الأول لحماية حقوق المواطنين وإيصال صوتهم، بعيدًا عن الحسابات السياسية أو المصالح الاقتصادية الضيقة، مما يفرض ضرورة إصلاح شامل يضمن تكافؤ الفرص بين مختلف الفاعلين الإعلاميين، ويجعل الحقيقة في خدمة المجتمع، لا في خدمة مراكز النفوذ.